فصل: الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 46‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏34‏)‏

{‏ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ‏}

وهذه كرامة عظيمة من اللّه تعالى لآدم امتَنَّ بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال‏:‏ أنت آدم الذي خلقه اللّه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته‏؟‏‏)‏ قال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء اللّه‏.‏

والغرض أن اللّه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر‏.‏

قال طاووس عن ابن عباس‏:‏ كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزرايل وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيٍّ يسمون جناً وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا‏.‏ وقال ابن جرير عن الحسن‏:‏ ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، وهذا إسناد صحيح عن الحسن‏.‏ وقال شهر ابن حوشب‏:‏ كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير، وعن سعد بن مسعود قال‏:‏ كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أُمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس كان من الجن‏}‏ وقال أبو جعفر‏:‏ ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ يعني من العاصين‏.‏ قال قتادة في قوله تعالى ‏{‏وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم‏}‏‏:‏ فكانت الطاعة للّه والسجدة لآدم، أكرم اللّه آدم أن اسجد له ملائكته، وقال بعض الناس‏:‏ كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا‏}‏ وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا‏.‏

قال معاذ‏:‏ ‏(‏قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول اللّه أحق أن يسجد لك، فقال‏:‏ ‏(‏لا، لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها‏)‏ ورجحه الرازي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل كانت السجدة للّه وآدم قبلة فيها، والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم كانت إكراما وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة للّه عزّ وجلّ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قوّاه الرازي في تفسيره وضعَّف ما عداه من القولين الآخرين، وهما‏:‏ كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الإنحناء ووضع الجبهة على الأرض، وهو ضعيف كما قال‏.‏

وقال قتادة في قوله تعالى ‏{‏فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين‏}‏‏:‏ حسد عدوّ اللّه إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه اللّه من الكرامة وقال‏:‏ أنا ناري وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدوّ اللّه أن يسجد لآدم عليه السلام‏.‏ قلت‏:‏ وقد ثبت في الصحيح‏:‏‏(‏ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر‏)‏ وقد كان في قلب إبليس من الكبر، والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏‏:‏ أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه، كما قال‏:‏ ‏{‏فكان من المغرقين‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏، وقال الشاعر‏:‏

بتيهاء قفر والمطي كأنها * قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها

أي قد صارت، وقال ابن فورك تقديره‏:‏ وقد كان في علم اللّه من الكافرين، ورجَّحه القرطبي، وذكر ههنا مسألة فقال، قال علماؤنا‏:‏ من أظهر اللّه على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة‏.‏

قلت‏:‏ وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال‏:‏ هو الدخ، حين خبأ له رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأت السماء بدخان مبين‏}‏، وبما كان يصدر عنه، أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد اللّه بن عمر، وبما تثبتت به الأحاديث الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة، من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة‏.‏ وكان الليث بن سعد يقول‏:‏ إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنّة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏35 ‏:‏ 36‏)‏

{‏ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ‏.‏ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ‏}

يبين اللّه تعالى إخباراً عما أكرم به آدم، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئاً واسعاً، طيباً‏.‏ وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم هي في السماء أم في الأرض‏؟‏ فالأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى، ويساق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، ويقال‏:‏ إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن ابن عباس وعن ناس من الصحابة ‏(‏أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيداً ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها اللّه من ضلعه، فسألها‏:‏ من أنت‏؟‏ قالت‏:‏ امرأة، قال‏:‏ ولم خلقت‏؟‏ قالت‏:‏ لتسكن إليّ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه‏:‏ ما اسمها يا آدم‏؟‏ قال‏:‏ حواء، قالوا‏:‏ ولمّ حواء‏؟‏ قال‏:‏ إنها خلقت من شيء حي‏)‏‏.

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ فهو اختبار من اللّه تعالى وامتحان لآدم‏.‏ وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي‏؟‏ فقال السدي عن ابن عباس‏:‏ الشجرة التي نهى عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وتزعم يهود أنها الحنطة‏.‏ وقال ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال ابن جرير بسنده‏:‏ حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم، والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد‏:‏ سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة‏.‏ وقال سفيان الثوري عن أبي مالك ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ ‏:‏النخلة، وقال ابن جرير عن مجاهد ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ ‏:‏ التينة‏.‏

قال الإمام العلّامة أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه‏:‏ والصواب في ذلك أن يقال‏:‏ إن اللّه عزّ وجلّ ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن اللّه لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنّة الصحيحة وقد قيل‏:‏ كانت شجرة البر، وقيل‏:‏ كانت شجرة العنب، وقيل‏:‏ كانت شجرة التين‏.‏ وجائز أن تكون واحدة منها وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم ينفع العالم به علمه، وإن جَهِلَه جاهل لم يضره جهله به واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشيطان عنها‏}‏ يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما، ويصح أين يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام ‏{‏فأزلهما الشيطان عنها‏}‏ أي بسببها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يؤفك عنه من أفك‏}‏ أي يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة ‏{‏وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ أي قرار وأرزاق وآجال إلى حين أي إلى وقت مؤقت ومقدار معيّن ثم تقوم القيامة، وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن منبه وغيرهم، ههنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الّله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا واللّه الموفق‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك‏؟‏ وأجاب الجمهور بأجوبة، وأحدها أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع ولهذا قال بعضهم - كما في التوراة - إنه دخل في فم الحية إلى الجنة‏.‏ وقد قال بعضهم‏:‏ يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء‏.‏ ذكرها الزمخشري وغيره‏.‏ وقد أورد القرطبي ههنا أحاديث في الحيات وقتلهن، وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏37‏)‏

{‏ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ‏}

قيل‏:‏ إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين‏}‏ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‏}‏ قال‏:‏ إن آدم لما أصاب الخطيئة قال‏:‏ أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت‏؟‏ قال اللّه‏:‏ ‏(‏إذن أدخلك الجنة‏)‏ فهي الكلمات، ومن الكلمات أيضاً ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين‏}‏‏.‏ وعن مجاهد أنه كان يقول في قوله اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‏}‏ الكلمات ‏(‏اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين‏)‏ ‏(‏ اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين‏)‏، ‏(‏ اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه هو التواب الرحيم‏}‏ أي أنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن تاب وعمل صالحاً‏}‏ وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب، ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏38 ‏:‏ 39‏)‏

{‏ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏}

يخبر تعالى بما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية‏:‏ أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية‏:‏ الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ الهدى محمد صلى اللَه عليه وسلم، وقال الحسن‏:‏ الهدى القرآن، هذان القولنان صحيحان‏.‏ وقول أبي العالية أعم ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏ أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه‏:‏ ‏{‏فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة‏:‏ ‏{‏ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى‏}‏ كما قال ههنا ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص‏.‏ قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة ‏"(1)‏رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين‏ ‏‏)‏‏.‏ "‏رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين‏ ‏‏)‏‏.‏ "‏رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين‏ ‏‏)‏‏.‏ "‏رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين‏ ‏‏)‏‏.‏ "‏رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين‏ ‏‏)‏‏.‏ "‏رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين‏"‏‏)‏‏.‏

وذكرُ هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم، وقال آخرون‏:‏ بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏40 ‏:‏ 41‏)‏

{‏ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ‏.‏ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ‏}

يأمر تعالى بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من اللّه أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي اللّه يعقوب عليه السلام، وتقديره‏:‏ يا بني العبد الصالح المطيع للّه، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول‏:‏ يا ابن الكريم افعل كذا؛ يا ابن الشجاع بارز الأبطال؛ يا ابن العالِم اطلب العلم، ونحو ذلك‏.‏ ومن ذلك أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرية من حملنا مع نوح إن كان عبداً شكوراً‏}‏ فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه ابن عباس قال‏:‏ حضرت عصابة من اليهود نبيَّ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏‏(‏ هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ اللهم نعم، فقال النبي صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اللهم اشهد‏)‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن إسرائيل كقولك عبد اللّه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ قال مجاهد‏}‏‏:‏ نعمة اللّه التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجّاهم من عبودية آل فرعون‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب‏.‏ قلت‏:‏ وهذا كقول موسى عليه السلام لهم‏:‏ ‏{‏يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين‏}‏ يعني في زمانهم، وقال محمد ابن اسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجّاهم من فرعون وقومه، ‏{‏وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم‏}‏، قال‏:‏ بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى اللَه عليه وسلم إذا جاءكم، أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً ‏.‏ وقال اللّه إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسلي وعزرتموهم، وأقرضتم اللّه قرضاً حسناً، لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ الآية‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هو الذي أخذ اللّه عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى اللَه عليه وسلم، فمن اتبعه غفر اللّه له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين‏.‏ وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى اللَه عليه وسلم ‏.‏

وقال أبو العالية ‏{‏وأوفوا بعهدي‏}‏، قال‏:‏ عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه‏.‏ وقال الضحّاك ‏{‏أوف بعهدكم‏}‏‏:‏ أرضَ عنكم و أُدخلكم الجنة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ أي فاخشون، وقال ابن عباس‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ أي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى اللَه عليه وسلم والإتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره وتصديق أخباره، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم‏}‏ يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى اللَه عليه وسلم النبي الأُمي العربي بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من اللّه تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم‏}‏، يقول‏:‏ يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول‏:‏ لأنهم يجدون محمداً صلى اللَه عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا أول كافر به‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية‏:‏ ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى اللَه عليه وسلم بعد سماعكم بمبعثه، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدّم ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزلت‏}‏، وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى اللَه عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله‏:‏ ‏{‏أول كافر به‏}‏ فيعني به أول من كفر به من بين إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أول من كفر به من جنسهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا‏}‏ يقول‏:‏ لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسول بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، سئل الحسن البصري عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمنا قليلا‏}‏ قال‏:‏ الثمن القليل الدنيا بحذافيرها‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ إن آياته‏:‏ كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل‏:‏ الدنيا وشهواتها؛ وقيل‏:‏ معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس، لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من تعلم علماً مما يبتغي به وجه اللّه لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة‏)‏ ‏"(2)‏أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة‏ ‏‏) "‏أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة‏ ‏‏) "‏أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة‏ ‏‏) "‏أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة‏ ‏‏) "‏أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة‏ ‏‏) "‏أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة‏"‏‏)‏ فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند ‏"‏مالك والشافعي وأحمد‏"‏وجمهور العلماء كما في قصة اللديغ‏:‏ ‏(‏إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه‏)‏‏.‏ ‏"‏رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري‏"‏‏(‏ وقوله في قصة المخطوبة‏:‏ زوجتكها بما معك من القرآن‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏ عن طلق بن حبيب قال‏:‏ التقوى أن تعمل بطاعة اللّه، رجاء رحمة اللّه، على نور من اللّه، وأنت تترك معصية اللّه، على نور من اللّه، تخاف عقاب اللّه، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏ أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه

 الآية رقم ‏(‏42 ‏:‏ 43‏)‏

{‏ ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ‏.‏ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ‏}

يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به، وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون‏}‏ فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به‏.‏ ولهذا قال ابن عباس ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏‏:‏ لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب، وقال أبو العالية‏:‏ ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد اللّه من أُمة محمد صلى اللَه عليه وسلم، وقال قتادة ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏‏:‏ ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين اللّه الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من اللّه‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وتكتموا الحق وأنتم تعلمون‏}‏ أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم وقال مجاهد والسدي‏:‏ ‏{‏وتكتموا الحق‏}‏ يعني محمداً صلى اللَه عليه وسلم ‏.‏ قلت وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً ويحتمل أن يكون منصوباً أي لا تجمعوا بين هذا وهذا، كما يقال‏:‏ لا تأكل السمك وتشرب اللبن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وفي مصحف ابن مسعود ‏{‏وتكتموا الحق‏}‏ أي في حال كتمانكم الحق، ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ حال أيضاً، ومعناه وأنتم تعلمون الحق ويجوز أن يكون المعنى وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس، من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار، إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيانُ‏:‏ الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى اللَه عليه وسلم ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى اللَه عليه وسلم ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏ أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى اللَه عليه وسلم يقول‏:‏ كونوا معهم ومنهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏44‏)‏ ‏{‏ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ‏}‏

معناه‏:‏ كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر - وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصَّر في أوامر اللّه‏؟‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ ما أنتم صانعون بأنفسكم، فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم‏؟‏ وهذا كما قال قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏ قال‏:‏ كان بنوا إسرائيل يأمرون الناس بطاعة اللّه، وبتقواه ويخالفون، فعيَّرهم اللّه عزّ وجلّ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وتنسون أنفسكم‏}‏ أي تتركون أنفسكم ‏{‏وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون‏}‏ أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيه من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي‏.‏ وقال الضحّاك عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ يقول أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى اللَه عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم‏.‏

قال أبو الدرداء رضي اللّه عنه‏:‏ لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات اللّه ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتاً، وقال عبد الرحمن بن أسلم في هذه الآية‏:‏ هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون‏}‏‏؟‏ والغرضُ أن اللّه تعالى ذمَّهم على هذا الصنيع، ونبَّههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ‏.‏ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت‏}‏‏.‏

فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف‏.‏ والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال سعيد بن جبير‏:‏ لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر‏.‏

قلت لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها مخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَثَل العالم الذي يعلِّمُ الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ‏"(3)‏رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه‏ "‏رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه‏ "‏رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه‏ "‏رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه‏ "‏رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه‏ "‏رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه‏"‏‏(‏ وقال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مررت ليلة أسرى بي على قوم تُقْرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالوا‏:‏ خطباء أمتك من أهل الدنيا، ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون‏)‏ ‏"(4)‏رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك‏ ‏، "‏رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك‏ ‏، "‏رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك‏ ‏، "‏رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك‏ ‏، "‏رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك‏ ‏، "‏رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك‏"‏، وقال صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك‏؟‏ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر‏؟‏ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه‏)‏ ‏"(5)‏رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه‏ "‏رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه‏ "‏رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه‏ "‏رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه‏ "‏رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه‏ "‏رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه‏"‏، وقد ورد في بعض الآثار أنه يغفر للجاهل سبعين مرة، حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏، وروي عن النبي صلى اللَه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أناساً من أهل الجنة يطّلعون على أناس من أهل النار، فيقولون بم دخلتم النار‏؟‏ فواللّه ما دخلنا الجنة إلا بما تعلَّمنا منكم، فيقولون‏:‏ إنّا كنا نقول ولا نفعل‏)‏ ‏"(6)‏رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة‏ ‏ "‏رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة‏ ‏ "‏رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة‏ ‏ "‏رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة‏ ‏ "‏رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة‏ ‏ "‏رواه ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة‏"‏

وجاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عباس‏:‏ إني أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال‏:‏ أبلغْتَ ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أرجو، قال‏:‏ إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب اللّه فافعل، قال‏:‏ وما هن‏؟‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏ أحكمت هذه‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فالحرف الثاني، قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏؟‏ كبر مقتا عن الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏ أحكمت هذه‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فالحرف الثالث، قال‏:‏ قول العبد الصالح شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏وما أُريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح‏}‏ أحمكت هذه الآية‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فابدأ بنفسك ‏(7) ‏رواه الضحّاك عن ابن عباس‏ " ‏رواه الضحّاك عن ابن عباس‏ " ‏رواه الضحّاك عن ابن عباس‏ " ‏رواه الضحّاك عن ابن عباس‏ ""(8)"‏وقال ابراهيم النخعي‏:‏ إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏، وقوله إخباراً عن شعيب‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 46‏)‏

{‏ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ‏.‏ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ‏}

يأمر تعالى عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل في تفسير هذه الآية‏:‏ استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة‏.‏ فأما الصبر فقيل‏:‏ إنه الصيام‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولهذه يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث‏:‏ ‏(‏الصوم نصف الصبر‏)‏ وقيل‏:‏ المراد بالصبر الكف عن المعاصي ولهذا قرنه بأداء العبادات، وأعلاها فعل الصلاة‏.‏ قال عمر بن الخطّاب‏:‏ الصبر صبران‏:‏ صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم اللّه‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ على مرضاة اللّه، واعلموا أنها من طاعة اللّه‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏والصلاة‏}‏ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ الآية‏.‏

وكان رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ‏"(9)‏رواه أحمد وأبو داود‏ "‏رواه أحمد وأبو داود‏ "‏رواه أحمد وأبو داود‏ "‏رواه أحمد وأبو داود‏ "‏رواه أحمد وأبو داود‏ "‏رواه أحمد وأبو داود‏"‏وعن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم يصلّي ويدعو حتى أصبح‏.‏ وروي أن ابن عباس نعي إليه أخوة قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏ عائد إلى الصلاة، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون‏:‏ ‏{‏ولا يلقاها إلا الصابرون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم‏}‏ أي وما يلقَّى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم‏.‏ وعلى كل تقدير فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏ أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين، قال ابن عباس‏:‏ يعني المصدقين بما أنزل اللّه، وقال مجاهد‏:‏ المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية‏:‏ الخائفين، وقال مقاتل‏:‏ المتواضعين، وقال الضحّاك ‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏ قال‏:‏ إنها لثقيلة إا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده‏.‏ وقال ابن جرير معنى الآية‏:‏ واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة اللّه وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا اللّه، العظيمة إقامتها ‏{‏إلا على الخاشعين‏}‏ أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته‏.‏ هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏الذي يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون‏}‏ هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي أن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء، سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات‏.‏ فأما قوله ‏{‏يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ فالمراد يعتقدون، والعرب قد تسمي اليقين ظناً والشك ظناً، نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفه‏.‏ ومنه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها‏}‏، قال مجاهد‏:‏ كلُّ ظنٍ في القرآن يقين‏.‏ وعن أبي العالية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ قال‏:‏ الظن ههنا يقين، وعن ابن جريج‏:‏ علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله‏:‏ ‏{‏إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏ يقول علمت‏.‏ قلت وفي الصحيح‏:‏ إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة‏:‏ ‏(‏ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع‏؟‏‏)‏ فيقول بلى، فيقول اللّه تعالى‏:‏ ‏(‏أظننت أنك ملاقيَّ‏)‏، فيقول‏:‏ لا، فيقول اللّه اليوم أنساك كما نسيتني وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نسو اللّه فنسيهم‏}‏، إن شاء اللّه تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏47‏)‏

{‏ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ‏}

يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وأنزل الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد اخترناهم على علم على العالمين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏}‏ قال أبو العالية في قوله تعالى ‏{‏وإني فضلتكم على العالمين‏}‏ على عالم مَنْ كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالماً، ويجب الحمل على هذا، لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏، وقال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أنتم توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه ‏"(10)‏رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً‏ ‏‏)‏، "‏رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً‏ ‏‏)‏، "‏رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً‏ ‏‏)‏، "‏رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً‏ ‏‏)‏، "‏رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً‏ ‏‏)‏، "‏رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً‏"‏‏)‏، والأحاديث في هذا كثيرة، وقيل‏:‏ المراد تفضيلٌ بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً، حكاه الرازي وفيه نظر‏.‏ وقيل‏:‏ فضّلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم وفيه نظر، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم، ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات اللّه وسلامه عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48‏)‏ ‏{‏ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ‏}

لما ذكَرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏لا تجزى نفس عن نفس شيئاً‏}‏ أي لا يغني أحد عن أحد، كما قال‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودُ هو جاز عن والده شيئاً‏}‏ فهذه أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏ يعني من الكافرين كما قال‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏، وكما قال عن أهل النار‏:‏ ‏{‏فما لنا من شافعين ولا صديق حميم‏}‏،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤخذ منها عدل‏}‏ أي لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا‏}‏ الآية‏.‏ فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا اللّه يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا بيعٌ فيه ولا خلال‏}‏ قال ابن عباس ‏{‏ولا يؤخذ منها عدل‏}‏ قال‏:‏ بدلٌ والبدل الفدية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب اللّه، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال‏:‏ ‏{‏فما له من قوة ولا ناصر‏}‏ أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون اللّه قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم‏}‏ الآية‏.‏ وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تناصرون‏}‏ ما لكم اليوم لا تمانعون منا، هيهات ليس ذلك لكم اليوم، قال ابن جرير‏:‏ وتأويل قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ‏.‏ بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها‏.‏ وذلك نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون‏؟‏ بل هم اليوم مستسلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏ 50‏)‏

{‏ وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ‏.‏ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ‏}

يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم، إذا نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وذلك أن فرعون لعنه اللّه كان قد رأى رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، فعند ذلك أمر فرعون لعنه اللّه بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها، وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال‏:‏ ‏{‏يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‏}‏، وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القَصَص، إن شاء اللّه تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد‏.‏ ومعنى يسومونكم يولونكم كما يقال‏:‏ سامه خطه خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو ابن كلثوم‏:‏

إذ ما الملك سام الناس خسفاً * أبينا أن نُقرَّ الخسف فينا

وقيل معناه‏:‏ يديمون عذابكم، وإنما قال ههنا‏:‏ ‏{‏يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‏}‏ ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏}‏ ثم فسره بهذا لقوله ههنا ‏{‏اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏‏.‏ وأما في سورة إبراهيم فلما قال‏:‏ ‏{‏وذكرهم بأيام الله‏}‏ أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك‏:‏ ‏{‏يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم‏}‏، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل‏؟‏ وفرعون عَلَمٌ على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم، كما أن قيصرعَلَمٌ على كل من ملك الروم مع الشام كافراً، و كسرى لمن ملك الفرس‏.‏ ويقال‏:‏ كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد ابن مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر‏.‏ وأياً ما كان فعليه لعنة اللّه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي ذلكم بلاء‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون، بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏‏.‏

وقيل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وفي ذلكم بلاء‏}‏ إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي‏:‏ وهذا قول الجمهور والبلاء ههنا في الشر، والمعنى‏:‏ وفي الذبح مكروه وامتحان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‏}‏ معناه‏:‏ وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر، ‏{‏فأنجيناكم‏}‏ أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك اشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم‏.‏ وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، لما روي عن ابن عباس قال‏:‏ قدم رسول الله صلى اللَه عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا اليوم الذي تصومون‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى اللّه عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ‏(‏ أنا أحق بموسى منكم‏)‏ فصامه رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم وأمر بصومه ‏"(11)‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم‏ ‏ "‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم‏ ‏ "‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم‏ ‏ "‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم‏ ‏ "‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم‏ ‏ "‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق نحو ما تقدم‏"‏

 الآية رقم ‏(‏51 ‏:‏ 53‏)‏

{‏ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ‏.‏ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ‏.‏ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمتي عليكم‏}‏ في عفوي عنكم، لمّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر‏}‏ وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذْ آتينا موسى الكتاب‏}‏ يعني التوراة، ‏{‏والفرقان‏}‏ وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏، وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏54‏)‏

{‏ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ‏}

هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع ‏{‏فتوبوا إلى بارئكم‏}‏ أي إلى خالقكم‏.‏ وفي قوله ههنا ‏{‏إلى بارئكم‏}‏ تنبيه على عظم جرمهم، أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره، قال ابن جرير بسنده عن ابن عباس‏:‏ أمر قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم قال‏:‏ وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كلُّ من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقى كانت له توبة‏.‏ وقال السدي‏:‏ في قوله ‏{‏فاقتلوا أنفسكم‏}‏ قال‏:‏ فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل منهم سبعون ألفاً وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية الباقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم‏}‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال‏:‏ لا إلا أن يقتلوا أنفسهم، قال‏:‏ فبلغني أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر اللّه، فأمر موسى من لم يكن عَبَد العجل أن يقتل من عبده، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب اللّه عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ لمّا رجع موسى إلى قومه، وكانوا سبعين رجالً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى‏:‏ انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا‏:‏ يا موسى ما من توبة‏؟‏ قال‏:‏ بلى ‏{‏اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم‏}‏ الآية، فاخترطوا السيوف والخناجر والسكاكين، قال‏:‏ وبعث عليهم ضبابة فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، ويلقي الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري‏.‏ قال‏:‏ ويتنادون فيها رحم اللّه عبداً صبر نفسه حتى يبلغ اللّه رضاه، قال فقتلاهم شهداء وتيب على أحيائهم ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏55 ‏:‏ 56‏)‏

{‏ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ‏.‏ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ‏}

يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذا سألتم رؤيتي جهرةً عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏جهرةً‏"‏علانية، وقال الربيع بن أنَس‏:‏ هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال فسمعوا كلاماً فقالوا‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة‏}‏، قال‏:‏ فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول ماتوا‏.‏ قال السدي في قوله ‏{‏فأخذتكم الصاعقة‏}‏ الصاعقة‏:‏ نار فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو اللّه ويقول‏:‏ رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ‏{‏لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ فأوحى اللّه إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن اللّه أحياهم فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون‏؟‏ قال‏:‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون‏}‏ وقال الربيع ابن أنَس‏:‏ كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وقال ابن جرير‏:‏ لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرَّق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، وقال‏:‏ انطلقوا إلى اللّه وتوبوا إلى اللّه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم‏.‏ صوموا وتطَّهروا وطهِّروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقاتِ وقَّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء اللّه‏:‏ يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا‏.‏ فقال‏:‏ أفعل‏.‏

فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم‏:‏ ادنوا‏.‏ وكان موسى إذا كلمه اللّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه‏:‏ افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة‏}‏، فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة، فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول‏:‏ ‏{‏رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي‏}‏ قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا‏؟‏ أي إن هذا لهم هلاك، واختر منهم سبعين رجلاً الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجُل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا‏؟‏ ‏{‏إنا هدنا إليك‏}‏ فلم يزل موسى يناشد ربه عزّ وجلّ ويطلب إليه حتى ردَّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال‏:‏ لا إلا أن يقتلوا أنفسهم‏.‏ وقال السُّدي‏:‏ لمّا تابت بنوا إسرائيل من عبادة العجل وتاب اللّه عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمره اللّه به، أمر اللّه موسى أن يأتيه في أُناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجُلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية‏.‏ والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسِّرين سواه، وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا اللّه عزّ وجلّ، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمُنِع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون‏!‏‏؟‏

 الآية رقم ‏(‏57‏)‏

{‏ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏}

لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكِّرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم فقال‏:‏ ‏{‏وظلّلنا عليكم الغمام‏}‏ جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يغمّ السماء أي يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حرّ الشمس‏.‏ وقال الحسن وقتادة ‏{‏وظلّلنا عليكم الغمام‏}‏‏:‏ كان هذا في البرّية ظلل عليهم الغمام من الشمس وعن مجاهد ‏{‏وظلّلنا عليكم الغمام‏}‏ قال‏:‏ ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي اللّه فيه في قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة‏}‏ وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، قال ابن عباس‏:‏ وكان معهم في التيه‏.‏

{‏وأنزلنا عليكم المَنَّ‏}‏ اختلفت عبارات المفسِّرين في المن ما هو‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا، وقال السُّدي‏:‏ قالوا‏:‏ يا موسى كيف لنا بما ههنا، أي الطعام‏؟‏ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرو الزنجبيل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان المن ينزل عليهم في محلّهم سقوط الثلج، أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك‏.‏ وقال عبد الرحمن بن اسلم‏:‏ إنه العسل‏.‏

والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن‏.‏ فمنهم من فسَّره بالطعام، ومنهم من فسَّره بالشراب، والظاهر - واللّه أعلم - أنه كل ما امتنَّ اللّه به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد‏.‏

فلمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مُزج مع الماء صار شراباُ طيّباً، وإن ركِّب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول النبي صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ‏"‏رواه البخاري وأخرجه الجماعة إلا أبا داود‏"‏‏)‏‏.‏وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين‏.‏ ‏"‏تفرد بإخراجه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏"‏

وأما السلوى فقال ابن عباس‏:‏ السلوى طائر يشبه السماني كانوا ياكلون منه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه وقال السُّدي‏:‏ لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام‏:‏ كيف لنا بما ههنا، أين الطعام‏؟‏ فأنزل اللّه عليهم المن‏.‏ فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه، فقالوا‏:‏ هذا الطعام فاين الشراب‏؟‏ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين، فقالوا‏:‏ هذا الشراب فأين الظل‏؟‏ فظلل عليهم الغمام، فقالوا‏:‏ هذا الظل فأين اللباس‏؟‏ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظلّلنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خلق لهم في التيه ثياب لا تَخْرق ولا تَدْرن لا تدرن ‏:‏ أي لا يصيبها وسخا ولا قذارة والدرن الوسخ قال ابن جريج‏:‏ فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏ أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال‏:‏ ‏{‏كلوا من رزق ربكم واشكروا له‏}‏ فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم‏.‏ هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات،  من ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى اللَه عليه وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء، في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحرّ الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى اللَه عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدْر مبرك الشاة فدعا اللّه فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل اللّه تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏58 ‏:‏ 59‏)‏

{‏ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ‏.‏ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ‏}‏ يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم اللّه في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك غير واحد، وقد قال اللّه تعالى حاكياً عن موسى‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب اللّه لكم ولا ترتدوا‏}‏ الآيات‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي أريحا وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - سجدا أي شكراً للّه تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال‏.‏ قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سجداً‏}‏ أي ركعاً، وقال الحسن البصري‏:‏ أُمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال السُّدي‏:‏ عن عبد اللّه بن مسعود‏:‏ قيل لهم ادخلوا الباب سجداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أُمروا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولو حطة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مغفرة استغفروا، وقال الضحّاك عن ابن عباس ‏{‏وقولوا حطة‏}‏ قال‏:‏ قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال الحسن وقتادة‏:‏ أي احطط عنا خطايانا ‏{‏نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين‏}‏ وقال‏:‏ هذا جواب الأمر، أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات، وضاعفنا لكم الحسنات‏.‏ وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا للّه تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً للّه على ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم‏}‏ روي البخاري عن النبي صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا حبة في شعرة ‏"(12)‏رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً‏ "‏رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً‏ "‏رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً‏ "‏رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً‏ "‏رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً‏ "‏رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏‏(‏ وقال الثوري عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الباب سجدا‏}‏ قال‏:‏ ركعا من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم‏}‏‏.‏

وحاصل ما ذكره المفسِّرون وما دلّ عليه السياق أنهم بدّلوا أمر اللّه لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأُمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رؤوسهم، وأُمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزأوا فقالوا حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل اللّه بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون‏}‏‏.‏

وقال الضحّاك عن ابن عباس‏:‏ كل شيء في كتاب اللّه من الرجز يعني به العذاب، وقال أبو العالية‏:‏ الرجُز الغضبُ، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الطاعون، لحديث‏:‏ ‏(‏الطاعون رجز عذاب عُذّب به من كان قبلكم ‏"‏الحديث رواه النسائي وأصله في الصحيحين‏"‏‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏60‏)‏

{‏ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ‏}

يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في أجابتي لنبيكم موسى عليه السلام، حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عينُ قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم، بلا سعي منكم ولا جَدّ، واعبدوا الذي سخَّر لكم ذلك، ‏{‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتُسْلَبوها‏.‏ وقد بسطه المفسِّرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي اللّه عنه‏:‏ وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها، وقال قتادة‏:‏ كان حجراً طورياً - من الطور - يحملونه معهم حتى نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقيل‏:‏ هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين اغتسل فقال له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وعن الحسن‏:‏ لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال‏:‏ وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس وقال الضحاك قال ابن عباس لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً، وقال الثوري عن ابن عباس‏:‏ قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عينا يشربون منها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏61‏)‏

{‏ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ‏}

يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم، قال الحسن البصري‏:‏ فبطروا وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا‏:‏ ‏{‏يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج مما تنبت الأرض من بقلها وقثاءهم وفومها وعدسها وبصلها‏}‏ وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، وأما الفوم فقال ابن عباس‏:‏ الثوم، وقال آخرون‏:‏ الفوم‏:‏ الحنطةُ وهو البُرَّ الذي يعمل منه الخبز، روي أن ابن عباس سئل عن قول اللّه ‏{‏وفومها‏}‏ ما فومها‏؟‏ قال‏:‏ الحنطة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول‏:‏

قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً * ورد المدينة عن زراعة فوم

وقال ابن جرير، عن ابن عباس في قول اللّه تعالى ‏{‏وفومها‏}‏ قال‏:‏ الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وقال الجوهري‏:‏ الفوم الحنطة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة‏:‏ أن الفوم كل حب يختبز، قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ هو الحمص لغة شامية، قال البخاري‏:‏ وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم، وقوله‏:‏ ‏{‏قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏‏؟‏ فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهبطوا مصراً‏}‏ هكذا هو منون مصروف، وقال ابن عباس‏:‏ مصراً من الأمصار‏.‏ والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل اللّه فيه‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم‏}‏ أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه، واللّه أعلم‏.‏

‏{‏ وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وضربت عليهم الذلة والمسكنة‏}‏ أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي لا يزالون مستذلين من وَجَدهم استذلهم وأهانهم وضربَ عليهم الصغاَر، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون‏.‏ يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الضحّاك‏:‏ ‏{‏وضربت عليهم الذلة‏}‏ قال‏:‏ الذل، وقال الحسن‏:‏ أذلهم اللّه فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجيبهم الجزية، وقال أبو العالية والسُّدى‏:‏ المسكنةُ الفاقةُ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وباؤا بغضب من اللّه‏}‏ استحقوا الغضب من اللّه، وقال ابن جرير‏:‏ يعني بقوله ‏{‏وباؤوا بغضب من اللّه‏}‏‏:‏ انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال منه‏:‏ باء فلان بذنبه يبوء به، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك‏}‏ يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام رجعوا منصرفين متحملين غضب اللّه قد صار عليهم من اللّه غضب ووجب عليهم من اللّه سخط‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق‏}‏ يقول اللّه تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات اللّه وإهانتهم حَمَلة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات اللّه وقتلوا أنبياء اللّه بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناسِ‏)‏ ‏"‏هذا جزء من حديث شريف وأوله ‏(‏لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر‏.‏‏.‏‏)‏الحديث‏"‏يعني رد الحق وانتقاص الناس والإزدراء بهم والتعاظم عليهم‏.‏ ولهذا لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات اللّه وقتلهم أنبياءه،أحل اللّه بهم بأسه الذي لا يُرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاءً وفاقاً‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ ‏(‏كانت بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار‏)‏ ‏(13) " " " " "(14)‏رواه أبو داود الطيالسي‏"‏وعن عبد اللّه بن مسعود‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتله نبي أو قَتَل نبيا، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين‏)(15)‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏ وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداءُ المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم‏(‏{‏ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏}

لما بيّن‏)‏

تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدّى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبّه تعالى على أن من أحسن من الأُمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كلُّ من اتبع الرسول النبي الأُمّي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ عن مجاهد قال‏:‏ قال سلمان رضي اللّه عنه‏:‏ سألت النبي صلى اللَه عليه وسلم عن أهل دين كنتُ معهم فذكرت من صَلاتهم وعبادتهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن باللّه واليوم الآخر‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وقال السُّدي‏:‏ نزلت في اصحاب ‏"‏سلمان الفارسي‏"‏بينا هو يحدِّث النبي صلى اللَه عليه وسلم إذا ذكر أصحابه فأخبروه خبرهم فقال‏:‏ كانوا يصلون، ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له النبي صلى اللَه عليه وسلم ‏:‏ يا سلمان هم من أهل النار‏(‏ فاشتد ذلك على سلمان فأنزل اللّه هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنّة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسُنَّة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى اللَه عليه وسلم فمن لم يتبع محمداً صلى اللَه عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً‏.‏

قلت وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا‏}‏ الآية قال‏:‏ فأنزل اللّه بعد ذلك‏:‏ ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقه ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى اللَه عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنا هدنا إليك‏}‏ أي تبنا فكأنَّهم سموا بذلك في الاصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل‏:‏ لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، فلما بعث عيسى صلى اللَه عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحوارين نحن أنصار الله‏}‏ وقيل إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنّهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة، قاله قتادة وروي عن ابن عباس أيضاً، واللّه أعلم‏.‏

فلما بعث اللّه محمداً صلى اللَه عليه وسلم خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسمِّيت أُمّة محمدا صلى اللَه عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية‏.‏

 وأما الصابئون فقد اختلف فيهم فقال مجاهد‏:‏ الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، وقال أبو العالية والضحّاك‏:‏ الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق‏:‏ لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال أبو جعفر الرازي‏:‏ بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة، وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال‏:‏ الذي يعرف اللّه وحده، وليست له شريعة يعمل بها، ولم يُحْدث كفراً، وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبيٌّ إلا قول‏:‏ لا إله إلا اللّه، قال‏:‏ ولم يمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى اللَه عليه وسلم وأصحابه‏:‏ هؤلاء الصابئون يشبِّهونهم بهم يعني في قول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا اللّه‏(‏ وقال الخليل‏:‏ هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، قال القرطبي‏:‏ والذي تحصَّل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة، ولهذا أفتى أبو سعيد الأصطخري بكفرهم للقادر باللّه حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن اللّه جعلها قبلة للعباد والدعاء أو بمعنى أن اللّه فوّض تدبير أمر هذا العالم إليها‏.‏ وأظهرُ الأقوال - واللّه أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه‏:‏ أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه، ولهذا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الارض إذ ذاك، وقال بعض العلماء‏:‏ الصابئون الذي لم تبلغهم دعوة نبي، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏63 ‏:‏ 64‏)‏

{‏وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ‏.‏ ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ‏}

يقول تعالى مذكِّراً بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق، بالإيمان وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤوسهم، ليقروا بما عوهدوا عليه يأخذوه بقوة وحزم وامتثال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون‏}‏ فالطور هو الجبل كما فسَّره به في الأعراف، وقال السدي‏:‏ فلما أبوا أن يسجدوا أمر اللّه الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم اللّه فكشفه عنهم فقالوا‏:‏ واللّه ما سجدة أحب إلى اللّه من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك، وذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقكم الطُّور‏}‏، ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏، يعني التوراة، قال أبو العالية‏:‏ بقوة أي بطاعة، وقال مجاهد‏:‏ بقوة بعملٍ بما فيه، وقال قتادة‏:‏ القوة‏:‏ الجد وإلا قذفته عليكم، قال‏:‏ فأقروا أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة، ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم، يعني الجبل، ‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ يقول‏:‏ اقرأوا ما في التوراة واعملوا به‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل اللّه‏}‏ يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم، توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه ‏{‏فلولا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم ‏{‏لكنتم من الخاسرين‏}‏ بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏65 ‏:‏ 66‏)‏

{‏ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ‏.‏ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم‏}‏ يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية، التي عصت أمر اللّه وخالفوا عهده وميثاقه، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذا كان مشروعاً لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم اللّه إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم‏.‏

وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون‏}‏ القصة بكمالها وقال السدي‏:‏ أهل هذه القرية هم أهل أيلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقلنا لهم كونوا ققردة خاسئين‏}‏ قال مجاهد‏:‏ مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مَثَلٌ ضربه اللّه ‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏}‏ وهذا سند جيّد عن مجاهد، وقولٌ غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام، وفي غيره قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت‏}‏ الآية، وقال ابن عباس ‏{‏فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏‏:‏ فجعل اللّه منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير‏.‏ وقال شيبان عن قتادة ‏{‏فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعدما كانوا رجالاً ونساء، وقال عطاء الخُراساني‏:‏ نودوا يا أهل القرية ‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فُلان، يا فلان ألم ننهكم‏؟‏ فيقولون برؤوسهم أي بلى، وقال الضحّاك عن ابن عباس‏:‏ فمسخهم اللّه قردة بمعصيتهم، يقول‏:‏ إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال‏:‏ ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل، وقد خلق اللّه القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها اللّه في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة وكذلك يفعل بمن يشاء، ويحوله كما يشاء ‏{‏خاسئين‏}‏ يعني أذلة صاغرين‏.‏

وقال السُّدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ قال‏:‏ هم أهل أيلة؛ وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحِيتان إذا كان يوم السبت، وقد حرّم اللّه على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً، لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لَزِمْنَ سُفْلَ البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون السبت فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم‏}‏ فاشتهى بعضهم السمك فجعل الرجُل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فاقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجُل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم‏:‏ ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحلّ لكم، فقالوا‏:‏ إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء‏:‏ لا، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، قال‏:‏ وغلبوا أن ينتهوا، فقال بعض الذين نهوهم لبعض‏:‏ ‏{‏لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا‏}‏ يقول‏:‏ لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم، فقال بعضهم‏:‏ ‏{‏معذرة إلى ربكم ولعلهم يتَّقون‏}‏، فلما أبَوْ قال المسلمون واللّه لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار ففتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكُفّار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفّار بابهم، فلما أبطأوا عليهم تسوَّر المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض، فذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فلما عتوا عمّا نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاشئين‏}‏، وذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم‏}‏ الآية فهم القردة، قلت والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الآئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه اللّه من أن مسخهم إنما كان معنويا لا صوريا، بل الصحيح أنه معنوي صوري واللّه تعالى أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالاً‏}‏ قال بعضهم‏:‏ الضمير في فجعلناهاعائد إلى القردة، وقيل على الحيتان ، وقيل على العقوبة، وقيل على القرية حكاها ابن جرير‏.‏ والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل اللّه هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم نكالا أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال اللّه عن فرعون‏:‏ ‏{‏فأخذه الله نكال الآخرة والأولى‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لما بين يديها وما خلفها‏}‏ أي من القرى، قال ابن عباس‏:‏ يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرةً لما حولها من القرى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون‏}‏، فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان، كما قال عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏لما بين يديها‏"‏من القرى ‏"‏وما خلفها‏"‏من القرى، وقال أبو العالية‏:‏ ‏"‏وما خلفها‏"‏لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكأن هؤلاء يقولون المراد ‏{‏لما بين يديها وما خلفها‏}‏ في الزمان، وهذا مستقيم بالنسبة إلى ما يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس، فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم‏؟‏ فتعيَّن أن المراد في المكان وهو ما حولها من القرى كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير واللّه أعلم‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها‏}‏ أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن عكرمة ومجاهد‏:‏ ‏{‏لما بين يديها‏}‏ من ذنوب القوم ‏{‏وما خلفها‏}‏ لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال أحدها‏:‏ أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها‏.‏ والثاني‏:‏ المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم‏.‏ والثالث‏:‏ أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن‏.‏ ‏"‏قلت‏"‏وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذي كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ الذين من بعدهم إلى يوم القيامة، قال الحسن‏:‏ فيتقون نقمة اللّه ويحذرونها، وقال السُّدي‏:‏ ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ أمّة محمد صلى اللَه عليه وسلم قلت المراد بالموعظة ههنا الزاجر، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم اللّه وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم اللّه بأدنى الحيل‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أوب عبد اللّه بن بطة وفي سنده ‏"‏أحمد بن محمد بن مسلم‏"‏وثقه الحافظ البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح‏"‏وهذا إسناد جيّد واللّه أعلم‏.‏